فصل: (سورة الإسراء: الآيات 73- 75)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وروت ساكنة بنت الجرود قالت: سمعت رجاء الغنوي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله».
{وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ} عن ذكرنا {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} وتباعدنا بنفسه.
وقال عطاء: تعظم وتكبر.
واختلف القراء في هذا الحديث، فقرأ أبو عمر وعاصم ونافع وحمزة في بعض الروايات عنهم: بفتح النون وكسر الهمزة على الامالة.
وقرأ الكسائي وخلف وحمزة في سائر الروايات: بكسرهما، اتبعوا الكسرة.
وقرأ أكثرهم: بفتحهما على التفخيم وهي اللغة العالية.
وقرأ أبو جعفر وعامر: بالنون ولها وجهان: أحدهما: مقلوبة من نأي كما يقال رأى ورأ، والثاني: إنها من النوء وهو النهوض والقيام ويقال أيضًا للوقوع الجلوس نوء وهو من الاضداد.
{وَإِذَا مَسَّهُ الشر} الشدة والضر {كَانَ يَئُوسًا} قنوطًا {قُلْ} يا محمّد {كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ}.
قال ابن عبّاس: على ناحيته. مجاهد: عى حدته.
الحسن وقتادة: على نيته. ابن زيد: على دينه.
مقاتل: على جدلته الفراء: على طريقته التي جبل عليها.
أبو عبيدة والقتيبي: على خليقته وطبيعته.
وهو من الشكل، يقال: لست على شكلي وشاكلتي، وقيل: على سبيله الذي إختاره لنفسه، وقيل: على اشتباهه من حولهم، أشكل عليّ الأمر أي إشتبه، وكل هذه الأقاويل متقاربة.
يقول العرب: طريق ذو شواكل إذا ينشعب الطرق [منه]، ومجاز الآية: كل يعمل ما يشبهه، كما قيل في المثل السائر: كل إمرىء يشبه فعله ما فعل المروء فهو أهله. {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلًا}.
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح}.
الاعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو متكيء على عسيب فمرَّ بقوم من اليهود، فقال بعضهم: سلوه عن الروح، وقال بعضهم: لاتسألوه، فقام متكأ على العسيب، قال عبد الله، وأنا خلفه فظنيت أنه يوحي إليه فقال {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلًا}.
فقال بعضهم لبعض: قلنا لكم لا تسألوه، وفي غير الحديث عن عبد الله، قالوا: فكذلك نجد مثله إن الروح من أمر الله تعالى.
وقال ابن عبّاس: قالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا ما الروح وكيف يعذب الروح في الجسد ولم يكن نزل فيهم شيء؟ فلم يجبهم فأتاه جبرئيل عليه السلام بهذه الآية.
ويروى أن اليهود إجتمعوا فقالوا لقريش حين سألوهم عن شأن محمّد وحاله سألوا محمدًا عن الروح.
وعن فتية فقدوا في الزمان الأوّل، وعن رجل بلغ شرق الأرض وغربها، فإن أجاب في ذلك كله فهو بنبي وإن لم يجب من ذلك كله فليس بنبي، وإن أجاب في بعض ذلك وأمسك عن البعض فهو نبي فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنها فأنزل الله عزّ وجلّ فيما سألوه عن الفتية قوله: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكهف والرقيم} [الكهف: 9] إلى آخر القصة.
وأنزل عن الجواب الذي بلغ شرق الأرض وغربها {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين} [الكهف: 83] إلى آخر القصة.
وأنزل في الروح قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح} الآية.
واختلفوا في هذا الروح المسؤل عنه ماهو: فقال الحسن وقتادة: هو جبرئيل.
قال قتادة: وكان ابن عبّاس يكتمه.
وروى أبو الميسرة ممن حدثه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: في قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح} الآية، قال: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل وجه منها سبعون ألف لسان لكل لسان منها سبعون ألف لغة، يسبح الله عزّ وجلّ بتلك اللغات كلها، يخلق من كل تسبيحة ملك يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة.
ابن عبّاس: الروح خلق من خلق الله صورهم على صور بني آدم، وما نزل من السماء ملك إلاّ ومعه واحد من الروح.
أبو صالح: الروح كهيئة الأنسان وليسوا بناس.
مجاهد: الروح على صورة بني آدم لهم أيد وأرجل ورؤوس يأكلون الطعام وليسوا بملائكة.
سعيد بن جبير: لم يخلق الله خلقًا أعظم من الروح غير العرش ولو شاء أن بلغ السماوات السبع والأرضين السبع ومن فيها بلقمة واحدة لفعل صورة، خلقه على صورة الملائكة وصورة وجهه على صورة وجه الآدميين، فيقوم يوم القيامة وهو ممن يشفع لأهل التوحيد لولا أن سندس الملائكة سترًا من نور لاحترق أهل السماوات من نوره.
وقال قوم: هو الروح المركب في الخلق الذي يفقده فأوهم وبوجوده مقاديم.
وقال بعضهم: أراد بالروح القرآن وذلك أن المشركين قالوا: يا محمّد من أتاك بهذا القرآن، فأنزل الله تعالى بهذه الآية وبيّن أنه من عنده {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} يعني القرآن {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} ناصرًا ينصرك ويرده عليك.
وقال الحسن: وكيلًا ناصرًا يمنعك منا إذا أردناك.
{إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} يعني لكن لايشاء ربك رحمة من ذلك، {إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا}.
هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وهو معصوب الرأس من وجع فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: «أيها الناس ما هذه الكتب التي يكتبون الكتاب غير كتاب الله يوشك أن يغضب الله لكتابه فلا يدع ورقًا إلاّ قليلًا إلاّ أخذ منه» قالوا: يا رسول الله فكيف بالمؤمنين والمؤمنات يومئذ؟ قال: «من أراد الله به خيرًا أبقى في قلبه لا إله إلاّ الله».
وروى شداد بن معقل عن عبد الله بن مسعود قال: إن أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون الصلاة والمصلين قوم لا دين لهم، وإن هذا القرآن تصبحون يومًا وما معكم منه شيء، فقال رجل: كيف يكون ذلك يا أبا عبد الرحمن وقد أثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا نعلمه أبناءنا ويعلمه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة.
قال: يسري به في ليلة فيذهب بما في المصاحب ما في القلوب [فتصبح الناس كالبهائم] ثمّ قرأ عبد الله {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} الآية.
وروى موسى بن عبيدة عن صفوان بن سليم عن ناجية بن عبد الله بن عتبة عن أبيه عن عبد الله قال: إكثروا الطواف بالبيت قبل أن يرفع وينسى الناس مكانه وأكثروا تلاوة القرآن قبل أن يرفع؟ قالوا: هذه المصاحف يرفع فكيف بما في صدور الرجال.
قال: يسري عليه ليلًا يصبحون منه فقراء [وينسون] قول لا إله إلاّ الله فيتبعون في قول أهل الجاهلية وإشعارهم فذلك حين يقع عليهم القول.
وعن عبد الله بن عمرو قال: لا يقوم الساعة حتّى يرفع القرآن من حيث نزل له دوي كدوي النحل فيقول الله تعالى: ما بالك، فيقول: منك خرجت وإليك أعود اُتلى ولا يعمل فيَّ. اهـ.

.قال الزمخشري:

.[سورة الإسراء: آية 70]

{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)}
{وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}.
قيل في تكرمة ابن آدم: كرّمه اللّه بالعقل، والنطق، والتمييز، والخط، والصورة الحسنة والقامة المعتدلة، وتدبير أمر المعاش والمعاد. وقيل بتسليطهم على ما في الأرض وتسخيره لهم.
وقيل: كل شيء يأكل بفيه إلا ابن آدم.
وعن الرشيد: أنه أحضر طعاما فدعا بالملاعق وعنده أبو يوسف، فقال له: جاء في تفسير جدك ابن عباس قوله تعالى {وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ} جعلنا لهم أصابع يأكلون بها، فأحضرت الملاعق فردّها وأكل بأصابعه عَلى {كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا} هو ما سوى الملائكة، وحسب بنى آدم تفضيلا أن ترفع عليهم الملائكة وهم هم قليل بها الأصوات إلا بغامها أي لا أصوات بها، ولنا أن نبقيه على ما هو عليه، ونقول: إن المخلوق قسمان: بنو آدم أحدهما وغيرهم من جميع المخلوقين القسم الآخر، ولا شك أن غيرهم أكثر منهم وإن لم يكونوا أكثر منهم كثيرا، فمعنى قوله: {وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا} أي على غيرهم من جميع المخلوقين، وتلك الأغيار كثير بلا مراء، وذلك مرادف لقولك: وفضلناهم على جميع من عداهم ممن خلقنا، فظاهر الآية إذا مع الأشعرية الذين سماهم مجبرة، وتمشدق في سبهم وشقشق العبارات في ثلهم، وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، واللّه ولى التوفيق والتسديد. [.....] ومنزلتهم عند اللّه منزلتهم. والعجب من المجبرة كيف عكسوا في كل شيء وكابروا، حتى جسرتهم عادة المكابرة على العظيمة التي هي تفضيل الإنسان على الملك، وذلك بعد ما سمعوا تفخيم اللّه أمرهم وتكثيره مع التعظيم ذكرهم، وعلموا أين أسكنهم، وأنى قربهم، وكيف نزلهم من أنبيائه منزلة أنبيائه من أممهم، ثم جرّهم فرط التعصب عليهم إلى أن لفقوا أقوالا وأخبارا منها: قالت الملائكة: ربنا إنك أعطيت بنى آدم الدنيا يأكلون منها ويتمتعون ولم تعطنا ذلك، فأعطناه في الآخرة. فقال: وعزتي وجلالي، لا أجعل ذرّية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان. ورووا عن أبى هريرة أنه قال: لمؤمن أكرم على اللّه من الملائكة الذين عنده. ومن ارتكابهم أنهم فسروا {كَثِيرٍ} بمعنى جميع في هذه الآية، وخذلوا حتى سلبوا الذوق فلم يحسوا ببشاعة قولهم: وفضلناهم على جميع ممن خلقنا، على أن معنى قولهم على جميع ممن خلقنا أشجى لحلوقهم وأقذى لعيونهم، ولكنهم لا يشعرون. فانظر إلى تمحلهم وتشبثهم بالتأويلات البعيدة في عداوة الملأ الأعلى، كأنّ جبريل عليه السلام غاظهم حين أهلك مدائن قوم لوط، فتلك السخيمة لا تنحل عن قلوبهم.

.[سورة الإسراء: آية 71]

{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)}.
قرئ: {يدعو}، بالياء والنون. ويدعى كل أناس، على البناء للمفعول. وقرأ الحسن: يدعوا كل أناس، على قلب الألف واوا في لغة من يقول: افعوا. والظرف نصب بإضمار اذكر.
ويجوز أن يقال: إنها علامة الجمع، كما في {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} والرفع مقدّر كما في:
يدعى، ولم يؤت بالنون، قلة مبالاة بها، لأنها غير ضمير، ليست إلا علامة {بِإِمامِهِمْ} بمن ائتموا به من نبىّ أو مقدّم في الدين، أو كتاب، أو دين، فيقال: يا أتباع فلان، يا أهل دين كذا وكتاب كذا. وقيل: بكتاب أعمالهم، فيقال: يا أصحاب كتاب الخير، ويا أصحاب كتاب الشرّ. وفي قراءة الحسن: بكتابهم. ومن بدع التفاسير: أن الإمام جمع أمّ، وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم، وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الاباء رعاية حق عيسى عليه السلام، وإظهار شرف الحسن والحسين، وأن لا يفتضح أولاد الزنا. وليت شعري أيهما أبدع؟ أصحة لفظه أم بهاء حكمته؟ {فَمَنْ أُوتِيَ} من هؤلاء المدعوّين {كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ} قيل أولئك، لأن من أوتى في معنى الجمع.
فإن قلت: لم خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم؟ كأن أصحاب الشمال لا يقرؤن كتابهم. قلت:
بلى، ولكن إذا اطلعوا على ما في كتابهم، أخذهم ما يأخذ المطالب بالنداء على جناياته، والاعتراف بمساويه، أما التنكيل به والانتقام منه، من الحياء والخجل والانخزال، وحبسة اللسان، والتتعتع، والعجز عن إقامة حروف الكلام، والذهاب عن تسوية القول، فكأن قراءتهم كلا قراءة. وأما أصحاب اليمين فأمرهم على عكس ذلك، لا جرم أنهم يقرؤن كتابهم أحسن قراءة وأبينها، ولا يقنعون بقراءتهم وحدهم حتى يقول القارئ لأهل المحشر: {هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ}.

.[سورة الإسراء: آية 72]

{وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)}.
معناه: ومن كان في الدنيا أعمى، فهو في الآخرة أعمى كذلك {وَأَضَلُّ سَبِيلًا} من الأعمى. والأعمى مستعار ممن لا يدرك المبصرات لفساد حاسته، لمن لا يهتدى إلى طريق النجاة: أما في الدنيا فلفقد النظر. وأما في الآخرة، فلأنه لا ينفعه الاهتداء إليه، وقد جوزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل. ومن ثم قرأ أبو عمرو الأوّل مما لا، والثاني مفخما، لأن أفعل التفضيل تمامه بمن، فكانت ألفه في حكم الواقعة في وسط الكلام، كقولك: أعمالكم وأما الأوّل فلم يتعلق به شيء، فكانت ألفه واقعة في الطرف معرضة للإمالة.

.[سورة الإسراء: الآيات 73- 75]

{وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيرًا (75)}.
روى أنّ ثقيفا قالت للنبي صلى اللّه عليه وسلم: لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب: لا نعشر، ولا نحشر، ولا نجبى في صلاتنا، وكل ربا لنا فهو لنا، وكل ربا علينا فهو موضوع عنا، وأن تمتعنا باللات سنة، ولا نكسرها بأيدينا عند رأس الحول، وأن تمنع من قصد وادينا وجّ فعضد شجره، فإذا سألتك العرب: لم فعلت ذلك؟ فقل: إن اللّه أمرنى به، وجاءوا بكتابهم فكتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمد رسول اللّه لثقيف: لا يعشرون ولا يحشرون، فقالوا: ولا يجبون. فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم قالوا للكاتب: اكتب: ولا يجبون، والكاتب ينظر إلى رسول اللّه، فقام عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه فسل سيفه وقال: أسعرتم قلب نبينا يا معشر ثقيف أسعر اللّه قلوبكم نارا، فقالوا: لسنا نكلم إياك، إنما نكلم محمدا. فنزلت. وروى أنّ قريشا قالوا له: اجعل آية رحمة آية عذاب، وآية عذاب آية رحمة، حتى نؤمن بك. فنزلت {وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} إن مخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. والمعنى: أن الشأن قاربوا أن يفتنوك أي يخدعوك فاتنين {عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ} من أوامرنا ونواهينا ووعدنا ووعيدنا {لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا} لتقول علينا ما لم نقل، يعني ما أرادوه عليه من تبديل الوعد وعيدا والوعيد وعدا، وما اقترحته ثقيف من أن يضيف إلى اللّه ما لم ينزله عليه {وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ} أي ولو اتبعت مرادهم لاتخذوك {خَلِيلًا} ولكنت لهم وليا وخرجت من ولايتى {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ} ولولا تثبيتنا لك وعصمتنا {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} لقاربت أن تميل إلى خدعهم ومكرهم، وهذا تهييج من اللّه له وفضل تثبيت، وفي ذلك لطف للمؤمنين {إِذًا} لو قاربت تركن اليهم أدنى ركنة {لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ} أي لأذقناك عذاب الآخرة وعذاب القبر مضاعفين. فإن قلت: كيف حقيقة هذا الكلام؟ قلت: أصله لأذقناك عذاب الحياة وعذاب الممات، لأن العذاب عذابان: عذاب في الممات وهو عذاب القبر، وعذاب في حياة الآخرة وهو عذاب النار. والضعف يوصف به، نحو قوله: {فَآتِهِمْ عَذابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} بمعنى مضاعفا، فكان أصل الكلام: لأذقناك عذابا ضعفا في الحياة، وعذابا ضعفا في الممات. ثم حذف الموصوف ألا ترى أنه لو كان الواقع كيدودة ركون كثير، لكان تقليله خلفا في الخبر، ولا ينكر أن الذنب يعظم بحسب فاعله على ما ورد: حسنات الأبرار سيئات المقربين. وأما نقل الزمخشري عن مشايخه استعظام نسبة الفواحش والقبائح إلى اللّه عز وجل، فلقد استعظموا عظيما حق على كل مسلم أن يستفظعه، ولكنهم جهلوا باعتقاد القبح وصفا ذاتيا للقبيح، فلزمهم على ذلك أن كل فعل استقبح من العبد استقبح من اللّه تعالى، وهم غالطون في ذلك، فمعنى كون الفعل قبحا أن اللّه تعالى نهى عنه عبده، وإن كان للّه تعالى أن يفعله، وهو حسن بالنسبة إليه {لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} ألا ترى أن الملك يصح منه أن يستقبح من عبده أن يجلس على كرسي الملك، ونهاه عن ذلك، ولا يستقبح ذلك من نفسه، بل هو منه حسن جميل. ولقد كان لمشايخه شغل باستعظام ما لزمهم من الاشراك، عن استعظام غيره مما هو توحيد محض وإيمان صرف، ولكنهم زين لهم سوء اعتقادهم فرأوه حسنا، واللّه الموفق.
وأقيمت الصفة مقامه وهو الضعف. ثم أضيفت الصفة إضافة الموصوف فقيل: ضعف الحياة وضعف الممات، كما لو قيل: لأذقناك أليم الحياة وأليم الممات. ويجوز أن يراد بضعف الحياة: عذاب الحياة الدنيا، وبضعف الممات: ما يعقب الموت من عذاب القبر وعذاب النار. والمعنى: لضاعفنا لك العذاب المعجل للعصاة في الحياة الدنيا، وما نؤخره لما بعد الموت. وفي ذكر الكيدودة وتقليلها، مع إتباعها الوعيد الشديد بالعذاب المضاعف في الدارين- دليل بين على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله وارتفاع منزلته، ومن ثم استعظم مشايخ العدل والتوحيد رضوان اللّه عليهم نسبة المجبرة القبائح إلى اللّه- تعالى عن ذلك علوا كبيرا- وفيه دليل على أن أدنى مداهنة للغواة مضادة للّه وخروج عن ولايته، وسبب موجب لغضبه ونكاله.
فعلى المؤمن إذا تلا هذه الآية أن يجثو عندها ويتدبرها، فهي جديرة بالتدبر، وبأن يستشعر الناظر فيها الخشية وازدياد التصلب في دين اللّه.
وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنها لما نزلت كان يقول: «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين».